فضل الصدقة في الشتاء
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على حبيب الامة محمد ابن عبد الله الصادق الامين اما بعد :
إن تقلّب الزمان وتصرفَ الأحوال من حر إلى قَر، ومن صيف إلى شتاء، إنما هو بحكمة الله -تعالى- وتصريفه؛ فهو سبحانه أعلم بما يُصلِح عباده: (فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)
البرد مهلك، كما أن الحر مؤذٍ، لكن الحَرَّ لا يهلك في الغالب؛ ولذا فالناس يخافون البرد ويتقونه أكثر من الحر، وقد دلَّ القرآن على هذا المعنى؛ ففي سورة النحل ذكر الله -تعالى- في أولها أصول النعم، ومنها بهيمة الأنعام، وقال سبحانه فيها: (وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ)[النحل: 5].
الشمس والقمر مسخران للأرض ومن عليها، وشدة البرد وشدة الحر نَفَسَان من جهنم؛ لتذكير العباد في الدنيا بنار الآخرة؛ ليتقوا ما يوردهم إياها، ويأخذوا بأسباب النجاة منها؛ روى أبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اشْتَكَتْ النَّارُ إلى رَبِّهَا، فقالت: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لها بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الْحَرِّ وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الزَّمْهَرِيرِ" [متفق عليه].
وفي آخر السورة ذكر مكملات هذه النعم من المتاع والأثاث، ومنها قوله سبحانه: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ)
وسرابيل البأس هي لباس الحرب، فلم يذكر لباس البرد من المكملات؛ لأنه عز وجل ذكره من الأصول والأساسات في أول السورة.
ومن كمال نعيم أهل الجنة أنهم لا يجدون فيها حرَّا ولا بردًا، قال قتادة -رحمه الله تعالى-: "عَلِم الله -تعالى- أنّ شدة الحر تؤذي وشدة البرد تؤذي فوقاهم أذاهما جميعا: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا) [الإنسان: 13] والزمهرير هو البرد القاطع".
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "هو لونٌ من العذاب".
وعن الأصمعي -رحمه الله تعالى- قال: "كانت العرب تسمي الشتاء الفاضح -وكأنه والله أعلم يفضح الفقير، فلا صبرَ له عليه، بخلاف الحر فيصبر عليه- فقيل لامرأة منهم: أيما أشد عليكم القيظ أم القُرُّ؟ فقالت: يا سبحان الله، من جعل البؤس كالأذى؟ فجعلت الشتاء بؤسا والقيظ أذى".
تذكروا في هذا البرد أحوال الفقراء والمعدمين من إخوانكم؛ فإنهم لا يجدون كساء يحمي أجسادهم، ولا فراشا يقيهم صقيع الأرض، ولا طعاما يُقوِّي عودهم على البرد، ولا يملكون وسائل للتدفئة، ومنهم مَنْ في بيوتهم مداخلُ ومخارج للهواء البارد من قلة ذات اليد، ومنهم من يسكنون صفيحا يجمدهم وأسرهم وأولادهم، وتذكروا أن الراحمين يرحمهم الرحمن.
ما أجمل أن تذهب لوحدك أو مع أولادك أو أصحابك، وتشتري لوازم للتدفئة من ملابس شتوية أو بطانيات أو مدافئ، ثم تتلمس حاجات المحتاجين، من جيرانك أو ممن يسكن الأحياء الفقيرة، أو من العمالة الوافدة الذين لا يجد بعضهم بطانية يستدفئ بها، افعل ذلك، وأعطهم بنفسك، سلمهم صدقتك بيدك، واحتسب أجرها عند ربك، وستجد أثرها في قلبك.
كم هو جميل إذا خرجت في ساعات الصباح الأولى إلى عملك أو مدرستك، أن تصطحب معك إبريق شاي أو حليب ساخن، وتبحث عن العمال في الشوارع، عند بناء أو محطة وقود أو غيرها، وتتصدق عليهم بكأس يدخل عليهم الدفئ، في هذه الأجواء الباردة.
اذهب إلى خزانة ملابسك، وابحث عن ملابس الشتاء التي لم تعد أنت أو أهلك بحاجة إليها، وهي بحالة جيدة، وأخرجها من بطون الخزائن إلى ظهور المحتاجين.
ابحث بنفسك عن المحتاجين، واسألهم عن فواتير الكهرباء، وحاول أن تتكفل بسداد كامل قيمة هذه الفواتير أو جزء منها، فالحاجة إلى التدفئة بالأجهزة الكهربائية في شدة الشتاء لا تقل عن الحاجة للمكيفات في فصل الصيف.
للفقراء علينا حقٌ دائم، ويتأكد هذا الحق في الأزمات والملمّات، وفي النكبات والصعوبات، ومن ذلك أن نرحمهم ونعطف عليهم مع برد الشتاء، يقول أحدهم:
أتـدري كيـف قابلنـي الشتاء *** وكيف تكون فيه القرفصاء
وكيـف البـرد يفعل بالثنايـا *** إذا اصطكت وجاوبها الفضـاء
وكيف نبيت فيـه على فـراش *** يجور عليه في الليل الغطــاء
فـإن حل الشـتاء فأدفئونـي *** فـإن الشـيخ يهدمه الشـتـاء
أتدري كيف جارك يا ابن أمي *** يهــدده مـن الفقـر العنـاء
وكيـف يـداه ترتجفان بؤساً *** وتصدمـه المذلـة والشـقـاء
يصب الزمهريـر عليـه ثلجاً *** فتجمد فـي الشـرايين الدمـاء
خراف الأرض يكسوهن عِهنٌ *** وتـرفل تحتـه نَعَـمٌ وشـاء
وللنمل المساكن حيـن يأتـي *** عليـه البرد أو جـُنّ المسـاء
وهـذا الآدمـي بغـيـر دار *** فهل يرضيك يزعجه الشتاء
يجوب الأرض من حي لحي *** ولا أرض تـقيـه ولا سمـاء
معاذ الله أن ترضـى بهـذا *** وطفـل الجيـل يصرعه الشتاء
أتلقاني وبي عـوز وضـيق *** ولا تحـنو؟ فمنـا هذا الجفـاء
أخي بالله لا تجـرح شعوري *** ألا يكفيـك مـا جـرح الشـتاء
ويقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْض يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ".
وجاء في الحديث أيضًا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ".
هذا والله ولي التوفيق
تعليقات: (0) إضافة تعليق